المقالات
مقالات د. عبدالله الحريري
مدن تسكنها ومدن تسكنك!
مدن تسكنها ومدن تسكنك!
12-11-2012 08:23

من غير المفيد لصحتك البدنية والنفسية أن تعيش في مدينة جامدة لا يجد الإنسان بين أروقتها مكانا لقضاء وقت من المتعة فيها، بل حتى في إجازته السنوية تجده سرعان ما يجهز لمغادرتها، لأنها لا تشكل عامل جذب إنساني.

عندما تكون المدينة عبارة عن مبان وأسوار أسمنتية فارغة من أي محتوى إنساني، فإنها تصبح مدينة طاردة لسكانها في الإجازات والمناسبات، ذلك أنها باتت تعرف بمدينة عمل فقط، المدن الأسمنتية - إذا صح التعبير - قد تسبب لسكانها في التوتر والاكتئاب وتكثر فيها أساليب وطرق العدوان، ابتداء من الشارع حيث تشاهد الناس في سباق محموم على الطرق وكأن وراءهم من يطاردهم، فقائدو السيارات تشاهدهم - عابسين - تتلبسهم حالة من الغضب إلى حد التعصب ومخالفة قوانين السير.

أنسنة المدن - المدن الصديقة للإنسان - تحتاج إلى أن يجد سكانها الراحة والسعادة والصحة والترفيه والتفاعل والتواصل الاجتماعي وأن تكون بيئة صحية بكل المعايير، وهذا يتطلب حزمة من الإجراءات والقرارات التي لا تخفى على المهتمين والمختصين في هذا المجال. أتمنى أن تتم إعادة النظر في تصميم الأحياء لتكون وفق خطط تحولها إلى صديقة للبيئة واجتماعية وثقافية وتحرر أفرادها من الاستراحات والبيوت ذات الأسوار المغلقة التي أغلقت تفاعل الناس في إطار من المباني الأسمنتية. أتمنى دراسة وضع البقالات المنتشرة في الأحياء التي باتت مرتعا للعمالة السائبة وتحدي القانون العام، واستبدالها بمجمعات استهلاكية وخدمية للحي بأسره من سوبر ماركت ومغسلة ملابس وصيدلية ومقهى ومحطة بنزين إلى جانب مركز اجتماعي ومركز للقاء سكان الحي، ومكتبة عامة ومواقع لممارسة رياضات ككرة القدم أو الطائرة أو السلة وصالات بلياردو وتنس وألعاب قوى وتدريب على الحاسب الآلي والمهارات ومسرح وصالات للفنون، ونحوها، وتخصيص مواقع للمعاقين، فضلا عن مجالس تجمع كبار السن وأهل الحي سواء من الرجال أو النساء.

في الرياض - على سبيل المثال - هناك توجه من الأمين لأنسنتها، بل توجد فعلا مشاريع بدأت لتحقيق هذه الرؤية مثل التوسع في إنشاء الحدائق العامة، وتصميم عشرات العشرات من مضامير المشي ومراكز الأحياء الرياضية، ربما من العوائق التي واجهتهم عدم توافر الأراضي، وقد يكون من الحلول لهذه المشكلة من خلال نزع الملكيات وشراء الأراضي ووضع هذه المشاريع وتخصيصها في أي مخططات جديدة.

أعتقد أن فكرة المركز الاجتماعي والخدمة المتكاملة فكرة جميلة طبقت في المجمعات السكنية الحكومية سواء لوزارة الدفاع أو لوزارة الداخلية والجامعات وأثبتت نجاحها، بل كان لها دور في إخراج هذه الأحياء من عزلتها.

غني عن القول أن هناك خللا واضحا في مشاريع البنية التحتية للأحياء وأقصد بذلك - على سبيل المثال - الرياض فهي تحتاج إنارة وأرصفة يسير عليها الناس وأصحاب الكراسي المتحركة والدراجات، دون عوائق كالحفر أو الشوارع المتقاطعة، نريد مدينة صديقة للناس للبيئة وأن تكون صحية فعندما تكون المدينة طاردة وغير مؤنسنة وتدعو إلى العزلة والركود وعدم التفاعل تصبح مدينة باعثة على المرض النفسي والعضوي كالضغط والسمنة والسكر وأمراض المفاصل والاكتئاب والتوتر والعصبية وغيرها كثير.

غني عن القول إن تعزيز البعد الإنساني للمدينة يحتاج إلى بنية تحتية لتتوافر فيه إمكانات لممارسة كافة السلوكيات الإيجابية الإنسانية، إضافة إلى جعل بلدية الحي تقوم باستثمار هذه المواقع بالتعاون مع ساكني الأحياء والجهات ذات العلاقة، وتحويلها إلى برامج وفعاليات طوال العام، بحيث ينتشر في المكان الجامد روح من النشاط والاحتفالية.

المدن السعودية بصفة عامة والعاصمة الرياض بصفة خاصة، تعد من المدن الحديثة وهي ذات طابع عصري مزودة بشبكة من الطرقات وناطحات السحاب، ومراكز تسوق فضلا عن الأحياء السكنية الجديدة، فقد أسهمت الطفرة النفطية في حدوث تغييرات جذرية وكبيرة في شكل المدينة وضاعفت مساحاتها، وهذا جميعه كان على حساب المدينة الحميمة الصغيرة التي تحمل في طياتها البعد الإنساني الدافئ. في الرياض شاهدنا تضاعفا للمساحات الخضراء واهتماما متصاعدا بإنشاء الحدائق العامة، وهذا الاهتمام نتمنى أن يمتد ليصل إلى جوانب أخرى تحول مدينتنا الحبيبة إلى مدينة إنسانية وهي جديرة بهذا الجانب.
---------------------------------------------------------
---------------------------------------

نشرت هذه المادة في جريدة الاقتصادية:

http://www.aleqt.com/2012/12/11/article_716134.html

تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 355


خدمات المحتوى


د. عبدالله الحريري
د. عبدالله الحريري

تقييم
1.00/10 (18 صوت)

Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.