المقالات
مقالات د. عبدالله الحريري
ما بين «البناء الخلاق» و«الفوضى الخلاقة» مسافات
ما بين «البناء الخلاق» و«الفوضى الخلاقة» مسافات
04-16-2013 12:04




تستغرب في أحيان كثيرة من وجود مخططات من جهات عدة تجاه المنطقة برمتها وبلادنا على وجه التحديد، ورغم أنه تم إعلان مثل هذه المخططات وتم تداولها، إلا أنه بعد عام أو اثنين تُفاجأ بأنه يتم تطبيقها على أرض الواقع، وينبع تساؤل: هل يمكن أن نكون قد نسينا تلك المعلومات وغمرناها فعلا في طي من النسيان، يقال بأن ذاكرة الشعوب مثقوبة أو متسربة، أو ما يسمى بالذاكرة الجمعية، وهذا لحد ما قد يكون صحيحا، لكن ماذا عن ذاكرة النخب من الصحافيين والمثقفين وكل فاعل اجتماعي وناشط، والذي يفترض أنهم قد أخذوا زمام المبادرة في توعية مجتمعاتهم وتثقيفها وتنمية معارفها ومداركها؟ تبادر لذهني هذا الموضوع وأنا اقرأ عن ما يسمى بـ (الفوضى الخلاقة)، والذي يعتبر مصطلحا سياسيا واستراتيجيا بكل ما تعني الكلمة، ويقصد به حسب موقع ويكيبيديا على شبكة الإنترنت تكوين حالة سياسية أو إنسانية مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث. ويعتبر هذا التفكير والمسمى أيضا متواجدا في أدبيات كثير من المجموعات القديمة، وورد ذكره في كثير من المراجع والكتب، ومنها كتاب ميكافيللي ''الأمير'' حيث قال: ''الشجاعة تُنتج السلم، والسلم يُنتج الراحة، والراحة يتبعها فوضى، والفوضى تؤدي إلى الخراب، ومن الفوضى ينشأ النظام والنظام يقود إلى الشجاعة. فهو هنا يرجع أن من نتائج الفوضى نشوء النظام. في العصر الحديث لم يطفُ هذا المصطلح (الفوضى الخلاقة) على السطح إلا بعد الغزو الأمريكي للعراق الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش وخاصة على لسان وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس في عدة كلمات، ومنها حديثها إلى صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في شهر نيسان (أبريل) 2005، حيث انتشرت بعض فرق الموت والأعمال التخريبية التي اتهمت بأنها مسيسة من قبل الجيش الأمريكي. يخيل لي أن هذه الفوضى مستمرة حتى اليوم! عموما منذ أن أطلق هذا المصطلح تم استخدام عدة وسائل وطرق لإحداثها وإشعالها، ومنها الطائفية كوسيلة للقضاء على محاور تماسك المجتمعات، وكان هناك هدف لتغيير الأنظمة وجغرافية المنطقة والديمقراطية العمياء وجعل الدول العربية في حالة من عدم الاستقرار، وهذا يحدث منذ استقلالها وحتى اليوم، وما أن تنتهي ثورة تدخل في ثورة أخرى، مما أرهق تلك الدول وشعوبها اقتصاديا واجتماعيا، وعلى الرغم من الموارد الطبيعية التي تمتلكها تلك الدول إلا أنها ترزح تحت الديون والفقر والأمية المعرفية فضلا عن انتشار الجهل بكل أنواعه.

المنادون بالإصلاح عن طريق العمليات الجراحية غير المأمونة، هم فئة من المغامرين غير الناضجين انفعاليا، والذين تتركز لديهم الأنا إلى درجة التمركز حول الذات، فليس همهم أو من أولوياتهم الآثار الجانبية التي قد تنتج عن تلك الجراحة غير الآمنة كموت المريض، لأنهم يؤمنون أن يكون هناك ضحايا مقابل أن تتحقق أفكارهم – المهم ألا يكونوا هم الضحايا أو من أبنائهم – ولا يهمهم الثمن الاجتماعي والاقتصادي والإنساني والحضاري الذي سوف تدفعه الشعوب لأنهم باردون عاطفيا وشخصيات سيكوبائية يرقصون على الألم والمعاناة لتلك الشعوب ويسقطون عدوانهم على الأنظمة نتيجة العقاب الذي نالوه من تلك الأنظمة بثورات خلاقة ضدها، والدخول من باب مصلحة الشعوب وكأنهم أدرى بالمصلحة وحراس على حقوق تلك الشعوب، ومع الأسف اندفع العامة الذين يعانون نحو تلك الأصوات وسعوا لحتفهم بأقصر الطرق. والمشاهد في عالم اليوم ماثلة ومتنوعة.

نحن استسلمنا لدعوات الديمقراطية ولكل منادٍ بـ (الفوضى الخلاقة) وأصبحنا نتألم يوميا لمشاهد الدمار والقتل لإخواننا العرب ونرى أمام أعيننا دولا ومجتمعات وأسرا تنهار وتتشرد، واستهلكنا أفكارنا وعواطفنا لأي أمور فرضت علينا، وكان الأجدر بنا أن نطلق ما يخدم مصالحنا ويقلل من خسائرنا ويحمي البناء الاجتماعي والأسري والوطني. أعتقد أن مصطلح (البناء الخلاق) الذي يركز على الإصلاح والتطور المتدرج الآمن من باب ''ادفع بالتي هي أحسن'' ومن مهارة ''حاور وفاوض واكسب ثم انطلق إلى المرحلة التالية'' ومن باب ''أنا أكسب وأنت تكسب أو لا شراكة بيننا'' وأن الإبداع والتطور المنطقي والعقلاني لا يأتي من خلال الفوضى وشريعة الغاب.

(البناء الخلاق) يركز على المفاهيم الإنسانية الخلاقة وينمي مواطن القوى في الإنسان على حساب مواطن الضعف، وبالتالي فإنه يستهدف القيم الإنسانية الإيجابية التي تدعو للتآخي والتعاون والدفع بالأمور نحو الأفضل وتهيئة البيئة المناسبة للنمو الإيجابي والتطور، ولا يمكن لأي فوضى سواء خلاقة أو غير خلاقة أن تبني بل هي أشد معول للهدم، ونحن نعلم أن الهدم أسرع وأقل تكلفة من البناء، ومن يتوقع أن الفوضى ستحسن الأمور وتعيد الخسائر من الأرواح وما عاناه الناس من آلام وأحزان وفراق وخسائر مادية ونفسية فهو خارج عن إطار الواقع الإنساني ويحتاج أن يقيم ذكاءه العاطفي والاجتماعي. ليت المملكة تتبنى عربيا استراتيجية (البناء الخلاق) في مواجهة نظرية (الفوضى الخلاقة) التي أثبتت قسوتها وبعدها عن الحضارة الإنسانية وفشلها اجتماعيا.

----------------------------------------------
تم نشر المادة في صفحة الراي جريدة الاقتصادية

http://www.aleqt.com/2013/03/26/article_742340.html

تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 458


خدمات المحتوى


د. عبدالله الحريري
د. عبدالله الحريري

تقييم
1.00/10 (19 صوت)

Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.