يا من شرى له من جواله علة
08-15-2013 02:55
طبيعة الحياة المعاصرة تختلف كليا عن تلك الحياة التي عاشها الآباء والأجداد من جميع الجوانب، سواء في الاهتمامات والتطلعات والطموحات، أو في الوسائل والأدوات التي تستخدم لتحقيق الأهداف والغايات. طبيعة الحياة الماضية للأجداد كانت بسيطة وعفوية، بل كانت المجتمعات الإنسانية متعاونة ومتعاضدة وتسود بينهم الألفة والمحبة، ولعل هذا نتاج عدة عوامل منها محدودية تلك المجتمعات وقلتها، وأيضا لقسوة الحياة فيحدث تعاون للتغلب عليها، لذلك انتشرت قيم ومبادئ جميلة عندما نسمع قصصا حولها نشعر بالحنين والاشتياق لها. أما في عصرنا الحاضر فالوضع مختلف كليا ومن جميع الجوانب، من طبيعة الأعمال إلى طبيعة التواصل مع الآخرين وصولا لأعداد غير محدودة من الناس وتوسعات هائلة تشهدها المدن وزحام خانق وأسواق متعددة وتجدها دوما مكتظة بالناس.
تأتي وسائل الاتصال الحديثة على تنوعها ووظائفها المتعددة لتجعلك متلقيا للأخبار والأحداث بسرعة مهولة وكبيرة، بل حتى التواصل مع الناس سواء المقربين منك أو حتى البعيدين عنك باتت عملية إلزامية فلا مفر لك، وجميعنا نعلم أن أحد البرامج المخصصة للتواصل الاجتماعي مصمم بطريقة غريبة بكل ما تعني الكلمة، حيث يسجل موعد دخولك وخروجك بالشهر واليوم والساعة والدقيقة وجزء من الثانية، والنتيجة أن أي شخص يمكنه معرفة أوقاتك، والمشكلة أن مثل هذه البرامج باتت تستخدم على نطاق واسع وبات زملاؤك والأصدقاء والمقربون منك يستخدمونها فتجد نفسك مجبرا بطريقة أو أخرى على استخدامها لتكون على معرفة بأخبار أحبتك، ولكن في الحقيقة تجد نفسك مكبلا بقيد مؤلم يحيط بك من كل جانب. على سبيل المثال سطوة وسائل الاتصال الحديثة على حياتنا شاهدناها في أبلغ صورها خلال أيام عيد الفطر المبارك، حيث تتلقى سيلا من الرسائل المحملة بمقاطع من الفيديو والصور والكلمات الشعرية، وأنت مجبر على الرد على هذا السيل من التهاني الإلكترونية، وفي الوقت نفسه تجاهلك لها يعد انتقاص للآخرين ولكل شخص تذكرك وأرسل لك. في الحقيقة جملة هذه التطورات إذا لم يحسن الإنسان إدارتها ووضع "كنترول" عليها فإنها ستسيطر على وقته تماما، وسيصبح ملتقيا لكل شيء، تذهب الدقائق وتتبعها الساعات الطويلة وهو خامل دون إنتاجية ودون فعالية. تجده دوما منغمسا في لوحة مفاتيح جواله، لا يعلم بالمحيط الذي يدور حوله. لعل أصحاب الأعمال والمديرين ومسؤولي الموارد البشرية بدأوا يلاحظون أثرا لمثل هذه الحالة في موظفيهم، وباتت فعلا تستنزف الكثير من وقتهم، وتؤثر في إنتاجياتهم والتزامهم بإتمام الأعمال. لن أتحدث عن مشاهدة موظف يصطف أمامه طابور من الناس لإنهاء معاملاتهم وهو ممسك بالجوال يرد على رسالة وصلته. الجانب الآخر لهذا الأثر البالغ هو في التوتر الذي تسببه هذه الوسائل الاتصالية الحديثة، فلم يعد مستغربا أو نادرا أن نشاهد توترات وغضبا غير مبرر ينتاب الكثيرين. ويرجع العلماء تزايد مثل هذه الحالات لأجهزة الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي التي تضخ أخبارا مهولة ومبالغا فيها بل وكاذبة، فيقع الإنسان أمام قلق بالغ، فحجم المعلومات التي ترسل وتصل له في شكل أخبار كثيرة وفيها مغالطات وأكاذيب وشائعات مغرضة، تتناول الدين والوطن ورموزنا وتراثنا وقيمنا. هذا الهجوم دون أن يشعر الإنسان يؤثر على عقلة الذي يبدأ في التوتر والتفكير الدائم، فتبعا لهذا يصاب الشخص بالأرق وتتابع عوامل أخرى من الأمراض النفسية التي سرعان ما تتحول لأمراض جسدية مثل صداع مستمر أو آلام في الظهر وغيرها كثير، وقد شاهدنا شبابا في مقتبل العمر يعانون أمراضا يفترض ألا تبدأ الشكوى منها إلا في الستينيات والسبعينيات من العمر.
الخلاصة أننا يجب أن نتخلص من التوتر الذي تسببه لنا أجهزة التواصل الحديثة، لا أقول بإهمالها وتركها وعدم استخدامها، بل بالتقنين منها. من الجميل أن تلم بها وتعرف استخدامها، لكن نصيحة تجنب الاعتماد عليها كليا لأنك إذا فعلت فأنت في طريق الادمان والاعتياد عليها، وهو ما قد يضر بالصحة النفسية والجسدية ليس على المدى الطويل بل القريب.
|
خدمات المحتوى
|
د.عبد الله الحريري
تقييم
|